الرد الإيراني- تحول استراتيجي وتداعيات على مكانة إسرائيل وهيبة نتنياهو

إيران فعلت ما وعدت به، وهذا ليس مجرد استعراض أو تبادل أدوار مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، كما يحاول البعض تصويره. هذا الرد يمثل رفضًا للوضع الراهن الذي يسعى إليه أولئك الذين يريدون إبقاء منطقتنا أسيرة لحكامها الذين لا يتجاوز طموحهم الخضوع للإملاءات الأمريكية وتقديم خدمات مجانية على حساب كرامة ومصالح شعوبنا.
من الضروري أن نتمعن في الأبعاد الحقيقية لهذه الضربة وتأثيراتها المحتملة، وأن نضعها في سياقها الصحيح دون مبالغة أو استهانة.
تغيير إيراني
إن ما حدث من حيث الفعل والنطاق يعد سابقة في الرد الإيراني المباشر. تاريخيًا، تعرضت إيران لضربات عديدة داخل أراضيها، بما في ذلك اغتيال قاسم سليماني، القيادي البارز في الحرس الثوري الإيراني، واغتيال علماء واستهداف منشآت نووية.
على الرغم من أن قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، يعتبر اعتداءً على جزء من الأراضي الإيرانية وفقًا للقوانين الدولية، بالإضافة إلى مقتل سبعة قادة من الحرس الثوري، كان بإمكان إيران الرد بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع الأحداث السابقة، كالاستهداف عن طريق وكلائها لأهداف إسرائيلية خارج الأراضي المحتلة. إلا أنها اختارت هذه المرة الرد المباشر في العمق الإسرائيلي وبكثافة غير مسبوقة من حيث عدد الصواريخ والطائرات المسيّرة، مما يشير إلى تحول جوهري في طريقة تعامل إيران مع إسرائيل.
قد يكون هذا التحول تكتيكيًا، بمثابة رسالة لإسرائيل لردعها عن التفكير في أي عمل عدائي مستقبلي ضد إيران. لكنه قد يتجاوز ذلك، ربما قررت إيران التخلي عن سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي كانت تتجنب فيها الانجرار وراء الاستفزازات الإسرائيلية؛ بهدف تطوير سلاحها النووي كرادع وتحقيق توازن قوى مستقبلي مع إسرائيل.
لقد بلغت الاستفزازات الإسرائيلية لإيران حدًا غير مقبول، وكان صمت إيران سيُفسر على أنه تشجيع لإسرائيل على المضي قدمًا في تصعيدها.
على الأرجح، استشعرت القيادة الإيرانية التغيرات في المنطقة، في ظل حالة الارتباك التي يعاني منها الاحتلال الإسرائيلي نتيجة فشله في تحقيق أهدافه في غزة وتزايد الخلافات مع الولايات المتحدة. وربما قدرت أن واشنطن لن ترد على استهداف إسرائيل. بل قد تكون طهران رأت أن هذه الضربات المحسوبة ستخدم إدارة بايدن من خلال زيادة الضغط على إسرائيل للاستجابة للمطالب الأمريكية المتعلقة بغزة، خاصة بعد أن أعربت الإدارة الأمريكية عن استيائها لعدم استشارتها بشأن الضربة التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق.
لذلك، عمدت طهران إلى إرسال رسالة واضحة لأمريكا عبر الوسطاء بأنها مضطرة للرد في العمق الإسرائيلي، مع التأكيد على حرصها على تجنب الانزلاق إلى حرب إقليمية، وأن ضربتها ستكون محدودة، وربما حددت المواقع المستهدفة للأمريكيين، وهي قاعدتين عسكريتين استخدمتا في الهجوم على القنصلية الإيرانية في سوريا. ويفترض، إذا صح ذلك، أن الإسرائيليين قد قاموا بإخلاء هاتين القاعدتين من العسكريين لتجنب وقوع خسائر بشرية!
الجدير بالذكر أن واشنطن لم تهدد إيران بالرد إلا إذا استهدفت إيران أو حلفاؤها قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة. وبالفعل، تلقت واشنطن ضمانات بأن الضربات لن تستهدفها.
يشير هذا إلى استياء إدارة بايدن من نتنياهو وحكومته المتطرفة، الذين قد يدفعون المنطقة نحو تصعيد إقليمي يتعارض مع السياسة الأمريكية التي تركز على مواجهة النفوذ الصيني والتحدي الروسي على حدود أوروبا.
بل إن ذلك يلمح إلى رغبة بايدن في توجيه ضربة أخرى لنتنياهو، بعد الضربة الكلامية التي وجهها إليه في المكالمة الهاتفية التي أدت إلى إعلان الحكومة الإسرائيلية عن فتح المعابر لدخول المساعدات والعودة إلى طاولة المفاوضات مع حماس بشأن الأسرى.
تضعضع مكانة إسرائيل
على الصعيد السياسي، سجلت إيران نقطة ضد حكومة المتطرفين في إسرائيل. أما عسكريًا، فلم يكن للضربة تأثير كبير على إسرائيل، التي تصدت للهجوم بالتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى مساهمة بعض الدول العربية.
تتباهى حكومة الاحتلال بقدرتها على تحييد الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية، ولكن من يضمن أن ادعاءها بإسقاط معظم الصواريخ والطائرات المسيّرة دون خسائر مادية كبيرة صحيح؟ لقد ادعت ذلك أيضًا بشأن صواريخ المقاومة في غزة، وما زالت تخفي خسائرها في تلك المواجهة. فما الذي يدعونا لتصديقها في المواجهة مع إيران؟
لقد سعت إسرائيل إلى شن حرب نفسية مفادها أنها محصنة وقوية، وقادرة مع حلفائها على التصدي لأي هجوم ضدها. ولكنها في الواقع بدت ضعيفة بعد أن تم اختراقها للمرة الثانية خلال ستة أشهر، كما أنها تتجاهل حقيقة أنه على الرغم من علمها بالضربة، فقد بقيت أيامًا في حالة استنفار وتوتر تحسبًا لها.
كما أن إسرائيل تعلم أن إيران لم تكن تسعى لإلحاق أضرار جسيمة بالكيان لتجنب اندلاع حرب إقليمية، فقد أبلغت أمريكا بأنها سترد، وأعلنت عن بدء الهجوم بمجرد تنفيذه.
الأهم، حسب خبراء عسكريين، أن إيران، في محاولتها لخوض صراع مضبوط، استخدمت ترسانتها القديمة من الطائرات المسيّرة والصواريخ التي تستطيع التكنولوجيا الإسرائيلية التصدي لها. هذا يمنح إيران فرصة لتقييم قدرات إسرائيل وأمريكا الدفاعية والاستفادة منها في تطوير أساليب جديدة لتجاوز هذه الدفاعات في أي مواجهة مستقبلية باستخدام أسلحة أكثر تطورًا. وقد صرح مسؤول إيراني للجزيرة في 16 أبريل 2024: "نحن جاهزون للمستوى الثاني من الرد باستخدام أسلحة لم تستخدم سابقًا في الصراع مع الكيان الإسرائيلي".
هذا الأمر يحمل نتيجتين هامتين:
- أولًا: تراجعت مكانة إسرائيل الاستراتيجية بشكل ملحوظ، بعد أن تأكد للمرة الثانية خلال ستة أشهر أنها بحاجة إلى تدخل أمريكي وغربي لحمايتها، بدلًا من أن تكون هي الحصن المتقدم للمشروع الغربي.
 - ثانيًا: فقدت إسرائيل هيبتها ومكانتها في المنطقة بعد أن أصبحت هدفًا للصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية.
 
هل استفاد نتنياهو؟
هل استفاد نتنياهو وإسرائيل من هذه الجولة من التصعيد؟
سعى نتنياهو لاستغلال هذه المواجهة لإطالة أمد الصراع، وإظهار نفسه أمام خصومه الداخليين بأنه لا يزال يحظى بدعم أمريكي وغربي، وأنه الأقوى بين الزعماء الإسرائيليين في مواجهة الضغوط الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، حاول نتنياهو استعادة صورة "الضحية" التي فقدها بسبب الوحشية التي ارتكبها في العدوان على غزة.
لكن كل هذه المكاسب مؤقتة وستتلاشى بمجرد انتهاء هذه الجولة، مع استمرار الاعتداءات على الفلسطينيين ومهاجمة رفح، وإظهار حاجة إسرائيل المستمرة للمساعدة الأمريكية والغربية في الدفاع عنها، وهي المرة الثانية التي تظهر فيها بهذا الضعف. هذا يظهر إسرائيل كعبء على أمريكا والغرب، ويكشف عن تعارض مواقف نتنياهو مع المصالح الأمريكية، حيث يسعى لجرّها إلى صراع إقليمي واسع يتعارض مع استراتيجية حليفته الساعية للتركيز على الصين وروسيا!
إذا كان السؤال عن الطرف الفائز في هذه الجولة، فلا شك أن الإدارة الأمريكية هي الرابحة، حيث تمكنت من ضبط رد الفعل الإيراني من خلال تفاهمات مع وسطاء، وأكدت للإسرائيليين أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها في الدفاع عنهم، وبالتالي عليهم الامتثال لمطالبها، وبإمكانها كبح جماح الرد الإسرائيلي المقابل طالما أنه لا يخدم مصالحها.
على الأغلب، سيفشل نتنياهو في محاولته إطالة أمد الصراع وجر المنطقة إلى حرب إقليمية، لأن محاولاته في غزة باءت بالفشل، واضطر للرضوخ للمطالب الأمريكية بعد ارتكابه مجزرة المطبخ المركزي العالمي، وهو الآن يواجه اتفاقًا بين إيران وأمريكا لعدم توسيع نطاق الصراع.
الرد وما بعده
إذا اتخذ مجلس الحرب الإسرائيلي قرارًا بالرد على إيران، فذلك لأنه لا يريد أن يظهر وكأنه تعرض للهجوم دون رد، ويعتبر ذلك تقليلًا من صورته ومكانته في المنطقة، رغم أنها قد تضررت بالفعل منذ 7 أكتوبر وما تلاه. كما أنه يسعى للتعجيل بالرد حتى لا تفقد إسرائيل التأييد الدولي الذي كسبته بسبب الرد الإيراني.
لكن تقييد الرد الإسرائيلي من قبل الولايات المتحدة يعتبر في حد ذاته تراجعًا في صورة إسرائيل وتقييدًا لقدراتها ودورها في المنطقة، بالإضافة إلى الخلاف المتزايد مع الرئيس بايدن، الذي أعرب سرًا عن قلقه من أن يحاول نتنياهو جرّ واشنطن إلى صراع إقليمي!
لا يزال احتمال توسع الصراع قائمًا، خاصة في ظل تهديدات إيران بالرد بقوة على أي عدوان وبشكل أقوى، نظرًا لامتلاكها أسلحة أكثر تطورًا من خلال تعاونها مع روسيا، مثل منظومة صواريخ أس-300 المضادة للطيران، بالإضافة إلى الصواريخ الهجومية المتقدمة والطائرات والمسيّرات.
يبدو أن حكومة الاحتلال تعول على أن هذا الرد المحدود لن يؤدي إلى ردود فعل من إيران، ولكن إجبار إسرائيل على تنفيذ ضربة خارج أراضي إيران سيزيد من تقييد خياراتها ويقلل من الصورة التي رسمتها لنفسها بأنها قادرة على الضرب في أي مكان وزمان. ومن يبدأ العدوان لا يضمن ألا يتطور الأمر إلى حرب شاملة، وقد أثبت نتنياهو مرارًا وتكرارًا أنه يخطئ في حساباته.
